يوميات موفد
بي.بي.سي
(محمد القشتول )
22.09.2009
تحيي إسبانيا الذكرى الأربعمائة لبداية طرد الموريسكيين (أحفاد المسلمين) والذين كانوا يعيشون في إقليم "فالنسيا" ويشكلون ثلث سكانه. وقد اتخذ قرار طردهم في ربيع عام 1609 ونفذ في نهاية سبتمبر/ ايلول من العام نفسه. هنا يوميات موفدنا إلى هناك محمد القشتول.
منظر عام من حي بني فري في فالنسيا
الأحد 20 سبتمبر/ أيلول
2009
فالنسيا تهرب من تاريخها. وقد يتخيل إلى القادم إليها - وفي ذهنه صور حواضر أخرى- أنها تتطلع إلى التخلص من شرنقتها ومن سمعتها كمدينة وعاصمة لمملكة ثم لإقليم شبه مستقل يوجد على هامش إسبانيا، وأنها تبذل جهدا من أجل ذلك؛ وأن هذا الجهد يبدو على ملامحها.
يبدو في امتدادها اللاهث الذي صيرها في ظرف وجيز ثالث أكبر مدينة في إسبانيا بعد برشلونة ومدريد؛ ويكاد أن يحول كل المدينة إلى ضاحية.
فقد يستغرقك السير في جزء من شارعين متلاصقين -الواحد منهما امتداد للآخر حتى صارا جادة واحدة- زهاء نصف ساعة من الضجر. قد يكون يوم الأحد هو السبب في هذا الضجر ربما.
ولكن عطلة الأحد لوحدها قد لا تفسر خلو جادة فيرنادو الكاثوليكي - بي الثاني عشر، والتي قد تكون أطول من جادة الشانزيليزيه، من المتعة التي يتغلب بها الزائر على نصب التحول في الشوارع الباريسية أو اللندنية أو الإشبيلية مثلا.
التاريخ ماض
يبدو سعي فالنسيا الحثيث إلى أن تصير مدينة دولية - على غرار برشلونة مثلا - في شكل البناء كذلك. ويندهش المرء عندما يجد في بلد أنطونيو غاودي – المهندس الكتلاني مصمم كاتدرائية العائلة المقدسة في برشلونة - مدنا وحواضر تنمو وتمتد وفقا لفلسفة الإسمنت والخرسانة، متجاهلة التدرج ومجالها الطبيعي والتاريخي.
ما تبقى من سور المدينة
فعلى الساحل الجنوبي، كوستا ديل صول (أو شاطئ الشمس)، نبتت، كالفطر، ما بين مالقة والجزيرة الخضراء، منتجعات قد تكون ميزتها الوحيدة ريعها السياحي.
ويلاحظ الزائر لفالنسيا العتيقة غلبة منطق التجارة وكثرة الدور الآيلة للسقوط ، أو تلك التي انهارت بالفعل تاركة وراءها أكواما من الأنقاض، في انتظار من يجرفها ليبني محلها بنايات نشاز.
وخارج المدينة، أو إذا تحرينا الدقة خارج حدود ما تبقى من أسوارها القديمة، بنايات لا تتميز كثيرا عما قد تجدها في حواضر ومدن أخرى سواء من العالم النامي أو من البلدان الأكثر نموا.
لكن قد تجد استثناءات في هذه البناية أو تلك التي أعيد ترميمها مع احترام شكلها الخارجي.
تجدها أيضا في حديقة فريدة غرست على مجرى مائي متفرع عن نهر تورية جف أو جفف، وعندما يشرف عليها الزوار من أحد الجسور التي أقيمت عليها فكأنما أشرفوا على نهر من الخضرة ورائحة الصنوبر.
مروا من هنا
عكس إشبيلية مثلا التي تراها ترعى تاريخها المختلط لغرض أو لآخر، فضلت فالنسيا نهج طريق مختلف للتعامل مع ماضيها المشترك.
جانب من حدائق توريا الممتدة ما بين النهر والبحر
وعلى الرغم من أن إسبانيا تحيي الذكرى الأربعمائة لبداية طرد الموريسكيين، لم أجد بفالنسيا منذ أن وصلت اليوم ما يوحي بأنها راغبة في استحضار الماضي. ولقد سألت فالنسياً بدا متحمسا للكشف عن محاسن الحاضرة إن كان سمع بالموريسكيين، فلم يحر جوابا. ثم لما شرحت له باقتضاب من يكونوا وكيف كانوا ثلث سكان الإقليم غير الموضوع وأشار إلى الملعب الذي يشيده نادي المدينة لكرة القدم.
لن تجد هنا ما قد يذكرك بالماضي الموريسكي أو الموديخار (نسبة إلى "المدجنين")، اللهم الا صومعة الميجيليتي، التي لم أرها بعد، أو ما قد تتضمنه بعض المتاحف التي أنوي أن أزورها، أو أسماء الأماكن.
وأسماء الأماكن هو كل ما تبقى على ما يبدو من الماضي الموريسكي، وأول ما لفت انتباهي عندما كنت أطالع خريطة المترو أسماء تنطق بالعربية كمحطات ميسلاتة المسيلة وبني مكلت وبني مامت والمعصرة.
وقال لي المواطن الفالنسي ان المنطقة حيث الفندق الذي أقيم فيه كانت إلى حين منطقة حقول وبساتين. ولعلها من الصدف أن الحي الذي أوجد فيه حاليا ورث اسم قرية كانت تدعى بني فري.
الإثنين 21 سبتمبر/ أيلول 2009
اليوم التقيت المؤرخين المختص في الدراسات الموريسكية في مكتبه بجامعة فالنسيا.
بلانكو مؤرخ مختص في الدراسات الموريسكية
إنه رفاييل بنيتس سانتشيز بلانكو الذي يحرجك بتواضعه. كان بالنسبة له يوما مرهقا ومثيرا للأعصاب، يوم افتتاح سنة جامعية ليست ككل السنوات لأنها شهدت تدشين برنامج تدريس جديد في قسم التاريخ الحديث الذي يعمل به أستاذا جامعيا- لكي آتي إليه من لندن حاملا معي حفنة من الأفكار المسبقة ألقيها في وجهه.
لم يقل لي هذا، كما لم يبد على ملامحه انفعال، اللهم سوى تحرج البداية: تحرج الباحث الذي يفضل رفقة الكتب على مقارعة الإعلام. ولم يخرج قط عن حدود اللياقة والأدب، ولا أظهر الاستخفاف الذي قد يطفو على وجه الخبير عندما يتلقى أسئلة من يريد أجوبة بالأبيض والأسود.
مررت بعد خروجي من عند الباحث برواق اصطفت على جوانبه مكاتب الأساتذة وصمت يشبه صمت الأديرة يسلمك
إلى بقايا حديث بين طالب وزميلته، وهمهمة تخمد تذكر بالجلبة التي كانت عند ولوجك بهو الكلية وبتلك الرائحة: رائحة الخريف الذي لا يزال مشبعا بأشعة الصيف وهي تختلط بعرف المكان حبره وورقه وأدراج مكاتبه وأرضيته وعطر موظفيه وطلبته وأساتذته وعرقهم ودخان سجائرهم الشقراء والسمراء وتطلعهم بين قلقهم وغموض سنة جامعية بدأت.
ثم ضجيج شارع بلاسكو إبانييس - الأديب الذي عرّف باسم فالنسيا وإسبانيا في العالم بروايته عن الحرب "فرسان القيامة الأربعة" التي صارت فيلما عام 1921.
ويتجه الشارع من الغرب إلى الشرق حاملا هرجه وأشجاره ومتاجره ومحلاته لحلاقة الكلاب أوبيعها ومطاعمه وعماراته وإداراته وكلياته وطريقه الواسعة المسفلتة التي خصص شريط منها لأصحاب الدراجات الهوائية يصولون فيها ويجولون ويبثون الرعب في نفوس المارة الغافلين من أمثالي.
ويحمل كل هذا وينزل وئيدا - فأرض فالنسيا منبسطة ولا ترتفع لتصير تلك السلاسل الجبلية الشهيرة بوعورتها إلا عند الأفق - وئيدا نحو البحر، نحو الميناء الذي كان في عهد طرد الموريسكيين - قبل أربعمئة سنة - مجرد "غراو"، أي ساحل للإنزال لا للرسو.
وفعلاقة فالنسيا بالبحر - تقول كتب التاريخ - علاقة حب وحذر. منها خرج ابن جبير في رحلته إلى الحج التي استغرقت - حسبما كتب - سنتين، ولكنها رفعت أسوارها بعيدا عن الشاطئ بنحو ميلين، وكانت تغلقها مبكرا، وكل من تأخر عليه أن يبيت خارجها.
وتشير اللوحة الإلكترونية فوق إحدى أبواب قطار المترو إلى أن درجة الحرارة تناهز 24 درجة مئوية، والساعة في حدود العاشرة ليلا بالتوقيت المحلي (جرينتش + 2).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق